السبت، أبريل 16، 2011

التوازن في الكون


التوازن في : الكون


 يقضي كثير من الناس حياتهم غير مبالين بالتوازن الدقيق والانضباط البارع في هذا الكون. ويجهلون عظمة المعنى لهذه التوازنات والتوافُقات في حياتهم. بينما أي خلل مهما يكن صغيرًا في أي من هذه التنظيمات سيتسبب بمشاكل قاسية فيما يتعلق بوجود وبقاء الجنس البشري^. 
إن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى
ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب. فحسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء. حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء. حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق. حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء. بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع، بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها*.
قال تعالى: [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)] النمل.



إن كل ما في الكون، كل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة ونظام وتوازن.. لا شيء عبث. لا شيء مصادفة، قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)]القمر.
كل شيء.. كل صغير وكل كبير. كل ناطق وكل صامت. كل متحرك وكل ساكن. كل ماض وكل حاضر. كل معلوم وكل مجهول. كل شيء.. خلقه الله تعالى بقدر.. وتوازن  يحدد حقيقته. ويحدد صفته. ويحدد مقداره. ويحدد زمانه. ويحدد مكانه. ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء. وتأثيره في كيان هذا الوجود*.
إن إظهار جزء فقط من التوازن والتناغم في هذا الكون يكفي للاستدلال على عظمة الله الذي بيده خلق كل شيء حتى أدّق تفصيل الكون، وبدون شك من المستحيل لأي شخص أو أي كائن حي آخر أن يبني مثل هذا التوازن الهائل.. فآية خلق السماوات والأرض كثيراً ما يشار إليها في القرآن، وكثيراً ما نمر عليها سراعاً دون أن نتوقف أمامها طويلاً.. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق*.
*****
(( التوازن في خلق الأرض ))
الأرض كوكب يعج بالحياة ويحوي الكثير من الأنظمة المعقدة التي تعمل مع بعضها البعض بشكل متكامل وبدون أي توقف. وعندما نقارن الأرض بالكواكب الأخرى، يتضح من النظرة الأولى أن الأرض تتميز بتصميم خاص لحياة البشر، فقد بُنيت بتوازن دقيق بحيث تغلب الحياة على كل بقعة من بقاعها، من أعالي الغلاف الجوي حتى أعماق الأرض^.
إن حجم الأرض هو الحجم المثالي من حيت الكتلة لتتمسك بغلافها الجوي.إذا نقصت هذه الكتلة قليلاً، ستكون قوة الجاذبية غير كافية وسيتبدد الغلاف الجوي الفضاء، أما إذا ازدادت كتلتها قليلاً، فإن قوة الجاذبية ستزداد بشكل كبير وستتشرب الأرض كل الغازات الموجودة في الغلاف الجوي! كما أن سُمك القشرة الأرضية يحوي نوع آخر من التوازن الدقيق في الأرض. فلو كانت القشرة الأرضية أسمك، لانتقل الكثير من الأوكسجين من الغلاف الجوي إلى القشرة الأرضية وهو ما يسبب إلى تأثيرات خطيرة على الحياة البشرية.أما إذا تحقق العكس وكانت القشرة الأرضية أرقّ، لكانت البراكين قد نشطت وعندئذٍ سيكون من الصعب أن توجد حياة. وأيضاً التوازن في طبقة الأوزون في الغلاف الجوي وهو أمر حاسم في حياة البشر، لأنه إذا كانت أقل سمكًا مما هي عليه حاليًا، لأصبحت حرارة سطح الكرة الأرضية منخفضة جدًا. أما إذا كانت أرقّ بقليل فإن حرارة سطح الأرض ستكون مرتفعة جدًا، وسينفذ الكثير من الأشعة فوق البنفسجية^.
كذلك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة. فإن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يؤدي بهذه الحياة كلها، أو لا يسمح أصلاً بقيامها. فحجم هذه الأرض، وكتلتها، وبعدها عن الشمس. وكتلة هذه الشمس، ودرجة حرارتها، وميل الأرض على محورها بهذا القدر، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس. وبعد القمر عن الأرض وحجمه وكتلته وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض.. إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء، ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض^!
في الحقيقة.. إن فقدان حتى واحد فقط من هذه التوازنات سيضع نهاية للحياة على الأرض. ودراسة هذا الكوكب الصغير الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل! فهذه الأرض واسعة عريضة بالقياس إلى البشر، وهي في الحقيقة ذرة أو هباء بالقياس إلى النجوم الكبيرة، ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تدور فيه.. تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه*!
فاللهُ تعالى خلق الكون بحكمته وقوته المطلقة، وصمم الأرض خصيصًا للحياة البشرية. ومع ذلك فإن معظم الناس يستخفـّون بهذه الحقائق ويمضون معظم  حياتهم جاهلين بهذه الوقائع.
**
(( قال تعالى: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)] يس.))
الشمس تدور حول نفسها. وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها. ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها. إنما هي تجري. تجري فعلاً. تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية! والله ـ ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها ـ يقول: إنها تجري لمستقر لها. هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه. ولا يعلم موعده سواه. وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه. وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم: [ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)] يس*.
(( قال تعالى: [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)] يس.))
ونحن نرى القمر في منازله تلك. يولد هلالاً ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً. ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً كالعرجون القديم*. والعرجون: هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة.
والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة. والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة، لا يملك إلا أن يسبح الخالق المبدع للجمال والجلال؛ المدبر للأجرام بذلك النظام. سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم. فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب، وإثارة التدبر والتفكير*.
 (( قال تعالى: [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)] يس.))
فلكل نجم وكوكب فلك أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه من التصادم والتصدع ـ حتى يأتي الأجل المعلوم ـ فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان*!
قال تعالى: [وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)] يس.
(( قال تعالى: [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)] الواقعة. ))
إن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة. متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح*!
ومن القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة، المحدودة المناظير، أن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدوداً. هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية -تبلغ ألف مليون نجم*!
يقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة. وهو احتمال بعيد، وبعيد جداً. إن لم يكن مستحيلاً^
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته، قد وضع هناك بحكمة وتقدير. وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل*.
ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له. وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها. ثم يتحقق هذا الذي فرضوه، ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام، في هذا الفضاء الهائل، بهذه النسب المقدرة، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب*!
***
(( التوازن في خلق الليل والنهار))
في كل يوم جديد، تتحقق جميع الأحداث وفق النّظم نفسها. وكثير من الناس ألف الأحداث التي تقع في الكون فأصبح ينظر إليها على أنها حوادث عادية، والحال أن ذلك يعدّ أحد الأدلة على دقة التصميم الموجود في الكون*.
إن الله تعالى هو الذي خلق الكون، فهو ذو القدرة العظيمة يخلق كل شيء بلا أدنى خلل أو قصور قال تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)] يونس.
إن الليل والنهار ظاهرتان تنشآن عن دورة الأرض حول محورها أمام الشمس مرة في كل أربع وعشرين ساعة. ويتوسع البشر في علمهم فيدركون أهمية هاتين الظاهرتين على سطح الأرض بالقياس إلى الحياة والأحياء؛ ويعرفون أن تقسيم الأوقات بين الليل والنهار بهذه النسبة على سطح هذا الكوكب عامل رئيسي لوجود الحياة وبقاء الأحياء؛ وأنه لو لم توجد هاتان الظاهرتان بهذا القدر وعلى هذا النظام لتغير كل شيء على هذه الأرض، وبخاصة تلك الحياة الإنسانية التي تخص المخاطبين. من الأحياء! ومن ثم تزداد هاتان الظاهرتان أهمية في الحس البشري^!
قال تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)] القصص. ففي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران حجة، ومشهد قدوم الليل .. والنور يختفي والظلمة تغشى.. مشهد يتكرر يراه الناس في كل بقعة.. قال تعالى: [وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) ] يس. وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام. فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير. وفيهما على التقدير والتدبير دليل. فسبحان من سخر الشمس والقمر بهذا النظام الدقيق العجيب*.
قال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) ] الفرقان.
(( التوازن في خلق الحيوان ))
قال تعالى: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)] الأنعام.
حولنا تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعا وأجناسا، وأشكالا وأحجاما، لا يحصيها إلا الله تعالى، وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه، معجز في تصريفه، معجز في تناسب حياته على هذه الأرض، بحيث لا يزيد جنس عن حدود معينة، تحفظ وجوده وامتداده وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى.. والقدرة الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير.. وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعا*.
إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار. ولو كانت مع عمرها الطويل، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. وذلك للحكمة التي قدرها الله تعالى، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والطيور*! 
والذبابة تبيض ملايين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن التوازن الذي لا يختل، في القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه*!
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عدداً، وأسرعها تكاثراً، وأشدها فتكاً - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمراً. تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء*!
ويطول بنا الاستعراض، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو، فنسرع الخطى إلى " الإميبا " ذات الخلية الواحدة، وهي كائن حي دقيق الحجم. يعيش في البرك والمستنقعات، أو على الأحجار الراسبة في القاع. ولا يرى بالعين إطلاقاً. بل يرى بالمجاهر، كتلة هلامية، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات. فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد، تستعملها كالأقدام، للسير بها إلى المكان المرغوب. ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة. وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين، وتفرز عليه عصارة هاضمة، فتتغذى بالمفيد منها، أما الباقي فتطرده من جسمها! وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء.. فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقاً بالعين، يعيش ويتحرك، ويتغذى ويتنفس، ويخرج فضلاته! فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين، ليكون كل قسم حيواناً جديداً* ؟!
يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: " الإنسان لا يقوم وحده ".في الفصل ثالث: " ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره ـ من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي لطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلاً في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات*.
قال تعالى: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)] الأنعام. ونضرب هنا مثلا واحدا.. لحقيقة أمة من الأمم الدقيقة الصغيرة...^فقد عكف علماء الحشرات مدة من الزمن يجرون بحوثاً و دراسات .. حول النملة، حيث وضعوها في مختبرات خاصة مع أجهزةٍ للمراقبة و التصوير، و أجهزة أخرى فوق( سمعية) لتسجيل لعل النمل يصدر أصوات فتسجل، أو حركات فترصد، و في النهاية خرجوا  بنتائج ، هذه خلاصتها:  
النمل يمثل 20% من الكائنات الحية على كوكب الأرض.. وتبلغ أنواعه ما يقرب من 20.000نوع من النمل تنتشر تقريبًا في كل مكان.. منه من يعيش عمره تحت الأرض.. وآخر يعيش فوقها أو بين الأشجار.. وقد تجده في سهول القطب الشمالي.. أو  حتى عند خط الاستواء. 
قالوا: لقد تبين لدينا من الملاحظة التامة أن النمل أمة كأمة البشر  لها قانونها الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي بل و العسكري أيضا، فالنمل له نظام اقتصادي خاص في التوفير، و الرصد الاحتياطي لوقت الحاجة و حفظ  المخزون بطريقة معينة حتى لا يفسد، و في النظام السياسي من ملوك و رؤساء و قادة، و في النظام الاجتماعي من أسرٍ و جماعات، و في النظام العسكري من جيوش و حمايات. بل ثبت أن النمل يقوم بحملات عسكرية على القرى المجاورة من النمل و يأسر منهم الأسرى و يضعهم في  السجون! قالوا: ومن هنا يتبين لنا أن النمل أمة كأمة البشر في الدقة و النظام كذلك.. قالوا : لقد تبين لدينا من الملاحظة التامة و التسجيل الدقيق أمر عجيب، كانت البشرية جميعا حتى القرن التاسع عشر الميلادي يظنون أن النمل حشرة لا تنطق، و أنها تتعامل مع أخواتها من النمل بالإشارة أو الإيحاء أو غير ذلك، لكن بفضل أجهزة التسجيل فوق السمعية التي (تسجل الأصوات التي لا تسمعها الأذن) تبين لنا أن النمل ينطق و يتكلم، و يناقش و يجادل بل و يعقد المؤتمرات لدراسة مشاكله الخاصة^! وقد أخبر الله تعالى في القرآن عن تلك الحقائق، قال تعالى في سورة النمل: [حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)] فها هو القرآن يخبر أن النمل ينطق و يتكلم في قوله (قالت نملة) فهل كان عند محمد  أجهزة فوق سمعية ليعرف بها أن النمل يتكلم؟ أما كان يخشى محمد  و هو يتلو على البشرية هذه الآية أن يكذبوه و يتحدوه! إن هذا لدليل عظيم على أن القرآن أنزل إليه من عند الله تعالى الذي  يعلم كل شيءٍ. فهل بقي لمنكر حجة!؟ 
وقد أثبتت أحدث الدراسات العلمية أن لكل نوع من أنواع الحيوانات رائحة خاصة به، وداخل النوع الواحد هناك روائح إضافية تعمل بمثابة بطاقة شخصية أو جواز سفر للتعريف بشخصية كل حيوان أو العائلات المختلفة، أو أفراد المستعمرات المختلفة. ولم يكن عجيباً أن نجد أحد علماء التاريخ الطبيعي" وهو رويال وكنسون" قد صنف كتاباً مهمًا جعل عنوانه " شخصية الحشرات" . والرائحة تعتبر لغة خفية أو رسالة صامتة تتكون مفرداتها من مواد كيماوية أطلق عليها العلماء أسم فرمونات^. قال تعالى: [ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)] طه
وهكذا ينكشف للعلم البشري يوماً بعد يوم، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئاً من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: [ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)] الفرقان*.
 (( التوازن في خلق النبات ))
قال تعالى: [وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)] الحجر. وقال تعالى: [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)] الأنعام.
كل شيء في هذه الأرض وكل حي.. يعلم الله تعالى مكانة ومقداره.. ويصرفه بكامل الحكمة والقدرة والتوازن.. وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض.. آية.. والصغير الدقيق كالضخم الكبير.. فهذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة.. آية.. آية في شكلها وحجمها، آية في لونها وملمسها. آية في وظيفتها وتركيبها. وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت، ولكن من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها؟! قال تعالى: [وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)] يوسف*.
وقد نوع الله تعالى النبات.. على حسب ما يصلح لكل نوع من الأحياء.. ولا يطغى نبات على آخر.. ولا يزيد عن قدره المحدد الذي وضع في الأرض بقمة التوازن والتناسق.. إلا إذا تدخل الإنسان وعبث في النظام الكوني المتوازن لنبات*.. قال تعالى: [سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) ] يس.
وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير والتقدير فيها لا يقل ظهوراً وبروزاً عنه في تلك الأحياء. قال تعالى: [ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)] الفرقان *
قال تعالى: [وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)] الرعد. 
الأرض واحدة والماء واحد.. بل و البقعة واحدة ومتجاورة! والنبات مختلف في الأشكال والألوان والرائحة والطعم !!
**
قال تعالى: [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)] لقمان
إن هذه التوازنات التي قد وصفناها بإيجاز حتى الآن ما هي إلا غيض من فيض ملايين التوازنات المترابطة والمعقدة، وبوجودها استطاع الناس الحياة في أمن وطمأنينة على الأرض.
فهذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعاً. بينما نتحدث طويلاً وطويلاً جداً. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض الضالين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد صدفة واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء من العلماء*!
ولا شك أن هذا التصميم الذي نلاحظه في كل صغيرة وكبيرة على وجه الأرض هو إثبات لحقيقة وجود خالق عظيم لا حدود لقدرته، خالق متصرف في كل شيء. قال تعالى: [قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)] النمل. 
إن كل ذلك يكشف لنا بكل جلاء أن هذا الكون لم يخلق بلا هدف، ولم يوجد عبثا، وهو ليس نتيجة مصادفات عمياء لحركة المادة؛ إنما الحياة خلقت وفق نظام وتصميم، وتناسق وتوازن.. دقيق للغاية ولهدف معين^.
ووراء هذا  يبقى دائماً ما هو أعظم وأكمل.. وهذا ما وعد الله الإنسان به. قال تعالى: [ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53] فصلت.
_______________________________________________

هناك تعليق واحد:

  1. جزاك الله كل خير موضوع قيم وشيق ..استمر على بركة الله وفتح الله لك من ابواب حكمته ، وخزائن علمه ،وعلمك ما لم تكن تعلم ،وان يرزقك السداد والرشاد والحكمة ...
    ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) ..

    ردحذف